أحمد فاوي
حقيقة لا مفر منها في الحياة.. الجميع ينتج النفايات. فكل الطعام والشراب الذي يستهلكه الإنسان يجب أن يذهب إلى مكان ما بعد أن ينتهي الجسم من استخدامه.
الفضلات البشرية أجزاء طبيعية من الحياة لا نفكر فيها عادةً كثيراً حول أين تنتهي هذه الفضلات بعد الانتهاء منها. لكن في العديد من الأماكن حول العالم، تأتي شبكات الصرف الصحي كآلية غير مرئية عملياً من أنابيب ومصارف ومحطات معالجة تحمل نفاياتنا بعيداً وتحمينا من تلوث مصادر المياه وتمنع انتشار أمراض خطيرة مثل الكوليرا والتيفويد. وقد يتفاجأ الكثيرون بأن فكرة بناء هذه البنية التحتية الضرورية ليست حتى عمرها قرنين من الزمان.
لكن هذا لا يعني بالطبع أن الحضارات القديمة لم يكن لها طرقها الخاصة في التعامل مع مشاكل الفضلات. على مر السنين، أظهرت الأدلة الأثرية أن الحضارات القديمة في مختلف مناطق العالم كانت تبني مراحيض عامة وخاصة، وكذلك أنظمة صرف بدائية تنقل النفايات البشرية إلى مسطحات مائية قريبة.
مع التقدم التدريجي في التكنولوجيا، قطع الإنسان شوطاً طويلاً في تحسين هذا النظام الصحي الذي يعد من أهم أنظمة الدفاع عن صحة الإنسان، على الرغم من أن هناك من لا يزال يفتقر إليه حتى اليوم.
بداية حل مشكلة التخلص من النفايات البشرية مع ظهور المدن القديمة
من المحتمل أن تعيش في منزل يمكنك فيه الذهاب إلى الحمام والجلوس على المرحاض وأخذ وقتك قبل أن تضغط على زر السيفون. لكن الحياة الحضرية قبل وجود شبكات الصرف الصحي لم تكن بهذه السهولة. هذا ليس مفاجئاً، لأن مشكلة التخلص من الفضلات البشرية لم تكن موجودة حقاً قبل ظهور المدن والمستوطنات. قبل 10,000 سنة تقريباً، لم يكن عدد سكان الأرض كبيراً أو متجمعاً بما يكفي لجعل التخلص من الفضلات عن طريق الطبيعة مشكلة.
لكن مع تركيز السكان في مناطق معينة، أصبحت الحاجة إلى التعامل مع الفضلات بسرعة واضحة، وتعاملت المجتمعات القديمة مع هذه المشكلة بطرق فعالة لكنها محدودة.
في مدينة بابل في بلاد ما بين النهرين حوالي 4000 قبل الميلاد، كان أول نظام صحي معروف عبارة عن حفرة عميقة لجمع الفضلات، تُنقل من المنازل عبر دلو من الماء يسير عبر أنابيب طينية. وكان اليونانيون القدماء، وخاصة المينويون في جزيرة كريت، يستخدمون أنظمة مشابهة.
في أسكتلندا، كانت هناك منازل في مستوطنة سكارا براي التي تعود للعصر الحجري الحديث وتحتوي على مصارف في جدرانها تشير إلى أنها كانت تعمل كمراحيض داخلية. وفي حوالي 3000 قبل الميلاد، تحوي موهينجو-دارو في باكستان الحالية مبانٍ بها مراحيض حقيقية مرتبطة بنظام صرف متطور.
الحضارات القديمة لم تهدر مياه الصرف
نجح الناس في الماضي في التعامل مع مياه الصرف كموارد، وليس مجرد نفايات؛ فقد أدخلوا مياه الصرف المرحلية (المياه الرمادية) في الحياة الحضرية قبل زمن طويل من أن يصبح إعادة تدوير المياه فكرة بيئية شائعة.
كان المزارعون في حضارات نهرية قديمة مثل مصر ووادي السند وبلاد ما بين النهرين يوجهون مياه الصرف المنزلية إلى أنظمة تربية الأحياء المائية والحقول الزراعية، مستخدمين الرطوبة والمغذيات في الماء لري المحاصيل أثناء الجفاف. وهكذا كانت شبكات الصرف الحضرية النظيفة في مدن مثل موهينجو-دارو وهارابا ذات قنوات مغطاة وأنظمة تصريف متطورة.
روما وشبكة الصرف الصحي الشهيرة التي ساعدتها على التقدم
يُعترف بدور قناة Cloaca Maxima، “الصرف الصحي العظيم” في روما، في تمكين الحضارة الرومانية من الصعود والازدهار. بناها الملك تاركوينيوس بريسكس في القرن السادس قبل الميلاد، وكانت عبارة عن قناة صرف ضخمة من مركز روما إلى نهر التيبر، وطوّرت لاحقاً لتشمل نظام إمداد للمراحيض والمرافق العامة بطول 1600 متر.
غيرت هذه القناة المشهد الحضري وأتاحت بناء الأسواق والمعابد والطرق، كما قللت من التجمعات المائية الراكدة التي تنقل الأمراض مثل الكوليرا.
القرون الوسطى والعودة إلى المجاري المفتوحة والحفر
بعد سقوط روما، اختفى نظام صرف المياه المتطور تدريجياً في أوروبا، وعاد الناس لاستخدام طرق بدائية مثل المجاري المفتوحة وحفر الفضلات في الخلفيات وحتى رميها في الشوارع، مما تسبب في تلوث مكامن المياه وظهور أمراض مزمنة.
أزمة “الرائحة الكريهة العظيمة” في لندن 1858
شهدت لندن في صيف 1858 ما عُرف بـ “الرائحة الكريهة العظيمة”، بسبب تركز فضلات البشر في نهر التيمس مع ارتفاع درجات الحرارة، مما أدى لتفشي الكوليرا والتيفويد. دفعت هذا الأزمة إلى تنفيذ اقتراح المهندس جوزيف بازالجيت لإنشاء نظام صرف رئيسي يتضمن أنفاقاً ضخمة ومحطات ضخ، نقلت ملايين اللترات من مياه الصرف بعيداً.
رغم تحسن لندن، كانت المشكلة أن النظام كان يرمي المياه الملوثة في مصب نهر التيمس، مما سبب أزمة بعد غرق باخرة SS Princess Alice في مياه الصرف، وتسبب بموت حوالي 650 شخصاً. تبع ذلك ضغط عام لإنشاء محطات معالجة مياه الصرف.
تطور أنظمة الصرف في الولايات المتحدة
واجهت المدن الأمريكية مشكلات مشابهة وأطلقت خططاً لتحسين الصرف بعد تفشي الكوليرا، أشهرها في شيكاغو عام 1854 حيث تم رفع المباني والشوارع لتركيب شبكات صرف تحتها.
تقنية الحمأة المنشطة وأهميتها
في 1913، ابتكر مهندسان في بريطانيا نظام الحمأة المنشطة لتنقية مياه الصرف بطرق بيولوجية، مما خفض وقت المعالجة من أيام إلى ساعات، واعتمدته أمريكا وأوروبا كجزء أساسي من معالجة مياه الصرف.
التطورات الحديثة
بحلول منتصف القرن العشرين، تم بناء آلاف الأميال من المجاري في المدن الكبرى الأمريكية، مع اختلاف أنظمة جمع المياه العادمة ومياه الأمطار، وبعض المنازل الريفية تستخدم خزانات الصرف الصحي التي قد تسبب تلوث المياه الجوفية.
تأثير شبكات الصرف الصحي على الصحة العالمية
قادت شبكات الصرف الحديث إلى انخفاض هائل في الأمراض المنقولة عبر المياه مثل التيفويد والكوليرا، مع استثمار الدول في هذه البنى التحتية مرتبطة بانخفاض معدلات الوفيات. رغم ذلك، يعاني حوالي 1.5 مليار شخص حول العالم من نقص في المراحيض الخاصة، وما يزيد على 400 مليون لا خيار لهم سوى التبرز في الشوارع أو المياه الطبيعية، مما يزيد من انتشار الأمراض.